فصل: تفسير الآية رقم (28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (23- 24):

{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)}
{وَلَمَّا وَرَدَ} وصل {مَاء مَدْيَنَ} ماءهم الذي يسقون منه وكان بئراً {وَجَدَ عَلَيْهِ} على جانب البئر {أُمَّةً} جماعة كثيرة {مِنَ الناس} من أناس مختلفين {يُسْقَوْنَ} مواشيهم {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ} في مكان أسفل من مكانهم {امرأتين تَذُودَانِ} تطردان غنمهما عن الماء لأن على الماء من هو أقوى منهما فلا تتمكنان من السقي أو لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم، والذود الطرد والدفع {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} ما شأنكما وحقيقته ما مخطوبكما أي ما مطلوبكما من الذياد فسمي المخطوب خطباً {قَالَتَا لاَ نَسْقِى} غنمنا {حتى يُصْدِرَ الرعاء} مواشيهم {يصدر} شامي ويزيد وأبو عمرو أي يرجع والرعاء جمع راعٍ كقائم وقيام {وَأَبُونَا شَيْخٌ} لا يمكنه سقي الأغنام {كَبِيرٌ} في حاله أو في السن لا يقدر على رعي الغنم، أبدتا إليه عذرهما في توليهما السقي بأنفسهما.
{فسقى لَهُمَا} فسقى غنمهما لأجلهما رغبة في المعروف وإغاثة للملهوف. روي أنه نحى القوم عن رأس البئر وسألهم دلواً فأعطوه دلوهم وقالوا: استق بها وكانت لا ينزعها إلا أربعون فاستقى بها وصبها في الحوض ودعا بالبركة. وترك المفعول في {يسقون} و{تذودان} و{لا نسقي} و{فسقى} لأن الغرض هو الفعل لا المعفول، ألا ترى أنه إنما رحمهما لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقي، ولم يرحمهما لأن مذودهما غنم ومسقيهم إبل مثلاً، وكذا في {لا نسقي} و{فسقى} فالمقصود هو السقي لا المسقى. ووجه مطابقة جوابها سؤاله أنه سألهما عن سبب الذود فقالتا: السبب في ذلك أنا امرأتان مستورتان ضعيفتان لا نقدر على مزاحمة الرجال ونستحي من الاختلاط بهم فلا بدلنا من تأخير السقي إلى أن يفرغوا. وإنما رضي شعيب عليه السلام لابنتيه بسقي الماشية لأن هذا الأمر في نفسه ليس بمحظور والدين لا يأباه، وأما المروءة فعادات الناس في ذلك متباينة وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر خصوصاً إذا كانت الحالة حالة ضرورة.
{ثُمَّ تولى إِلَى الظل} أي ظل سمرة، وفيه دليل جواز الاستراحة في الدنيا بخلاف ما يقوله بعض المتقشفة ولما طال البلاء عليه أنس بالشكوى إذ لا نقص في الشكوى إلى المولى {فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا} لأي شيء {أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ} قليل أو كثير غثٍ أو سمين {فَقِيرٌ} محتاج، وعدي {فقير} باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب. قيل: كان لم يذق طعاماً سبعة أيام وقد لصق بظهره بطنه. ويحتمل أن يريد أني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إلي من خير الدارين وهو النجاة من الظالمين لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة، قال ذلك رضاً بالبدل السني وفرحاً به وشكراً له. وقال ابن عطاء: نظر من العبودية إلى الربوبية وتكلم بلسان الافتقار لما ورد على سره من الأنوار.

.تفسير الآية رقم (25):

{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)}
{فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى استحياء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} على استحياء في موضع الحال أي مستحية، وهذا دليل كمال إيمانها وشرف عنصرها لأنها كانت تدعوه إلى ضيافتها ولم تعلم أيجيبها أم لا، فأتته مستحية قد استترت بكم درعها، و{ما} في {ما سقيت} مصدرية أي جزاء سقيك. روي أنهما ما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس وأغنامهما حفّل قال لهما: ما أعجلكما؟ قالتا: وجدنا رجلاً صالحاً رحمنا فسقى لنا. فقال لإحداهما: اذهبي فادعيه لي فتبعها موسى عليه السلام فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لها: امشي خلفي وانعتي لي الطريق {فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص} أي قصته وأحواله مع فرعون، والقصص مصدر كالعلل سمي به المقصوص {قَالَ} له {لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين} إذ لا سلطان لفرعون بأرضنا، وفيه دليل جواز العمل بخبر الواحد ولو عبداً أو أنثى والمشي مع الأجنبية مع ذلك الاحتياط والتورع. وأما أخذ الأجر على البر والمعروف فقيل: إنه لا بأس به عند الحاجة كما كان لموسى عليه السلام، على أنه روي أنها لما قالت {ليجزيك} كره ذلك وإنما أجابها لئلا يخيب قصدها لأن للقاصد حرمة. ولما وضع شعيب الطعام بين يديه امتنع فقال شعيب: ألست جائعاً؟ قال: بلى ولكن أخاف أن يكون عوضاً مما سقيت لهما وإنا أهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا ولا نأخذ على المعروف ثمناً. فقال شعيب عليه السلام: هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا فأكل.

.تفسير الآيات (26- 27):

{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)}
{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأبت استجره} اتخذه أجيراً لرعي الغنم. رُوي أن كبراهما كانت تسمى صفراء والصغرى صفيراء، وصفراء هي التي ذهبت به وطلبت إلى أبيها أن يستأجره وهي التي تزوجها {إِنَّ خَيْرَ مَنِ استجرت القوى الأمين} فقال: وما علمك بقوته وأمانته؟ فذكرت نزع الدلو وأمرها بالمشي خلفه. وورد الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أن أمانته وقوته أمران متحققان. وقولها {إن خير من استأجرت القوي الأمين} كلام جامع لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان الكفاية والأمانة في القائم بأمرك فقد فرغ بالك وتم مرادك، وقيل: القوي في دينه الأمين في جوارحه. وقد استغنت بهذا لكلام الجاري مجرى المثل عن أن تقول استأجره لقوته وأمانته. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أفرس الناس ثلاث: بنت شعيب وصاحب يوسف في قوله {عسى أَن يَنفَعَنَا} [يوسف: 21] {قَالَ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ} أزوجك {إِحْدَى ابنتى هَاتَيْنِ} قوله {هاتين} يدل على أنه كان له غيرها وهذه مواعدة منه ولم يكن ذلك عقد نكاح إذ لو كان عقداً لقال قد أنكحتك {على أَن تَأْجُرَنِى} تكون أجيراً لي من أجرته إذا كنت له أجيراً {ثَمَانِىَ حِجَجٍ} ظرف والحجة السنة وجمعها حجج والتزوج على رعي الغنم جائز بالإجماع لأنه من باب القيام بأمر الزوجية فلا مناقضة بخلاف التزوج على الخدمة {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً} أي عمل عشر حجج {فَمِنْ عِندِكَ} فذلك تفضل منك ليس بواجبة عليك، أو فإتمامه من عندك ولا أحتمه عليك ولكنك إن فعلته فهو منك تفضل وتبرع {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} بإلزام أتم الأجلين، وحقيقة قولهم: شققت عليه وشق عليه الأمر أن الأمر إذا تعاظمك فكأنه شق عليك ظنك باثنين تقول تارة أطيقه وطوراً لا أطيقه {سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصالحين} في حسن المعاملة والوفاء بالعهد، ويجوز أن يراد الصلاح على العموم ويدخل تحته حسن المعاملة. والمراد باشتراطه مشيئة الله فيما وعد من الصلاح الاتكال على توفيقه فيه ومعونته لأنه إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ذلك.

.تفسير الآية رقم (28):

{قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)}
{قَالَ} موسى {ذلك} مبتدأ وهو إشارة إلى ما عاهده عليه شعيب والخبر {بَيْنِى وَبَيْنَكَ} يعني ذلك الذي قلته وعاهدتني فيه وشارطتني عليه قائم بيننا جميعاً لا يخرج كلانا عنه، لا أنا فيما شرطت علي ولا أنت فيما شرطت على نفسك. ثم قال: {أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ} أي أي أجل قضيت من الأجلين يعني العشرة أو الثمانية. و{أي} نصب ب {قضيت} و(ما) زائدة ومؤكدة لإبهام {أي} وهي شرطية وجوابها {فَلاَ عُدْوَانَ عَلَىَّ} أي لا يعتدى علي في طلب الزيادة عليه، قال المبرد: قد علم أنه لا عدوان عليه في أيهما ولكن جمعهما ليجعل الأقل كالأتم في الوفاء، وكما أن طلب الزيادة على الأتم عدوان فكذا طلب الزيادة على الأقل {والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} هو من وكل إليه الأمر، وعدي ب (على) لأنه استعمل في موضع الشاهد والرقيب.
رُوي أن شعيباً كانت عنده عصيّ الأنبياء عليهم السلام فقال لموسى بالليل: أدخل ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصي فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة، ولم يزل الأنبياء عليهم السلام يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب فمسها وكان مكفوفاً فضن بها فقال: خذ غيرهما فما وقع في يده إلا هي سبع مرات فعلم أن له شأناً. ولما أصبح قال له شعيب: إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك فإن الكلأ وإن كان بها أكثر إلا أن فيها تنيناً أخشاه عليك وعلى الغنم، فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على كفها فمشى على أثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله فنام فإذا التنين قد أقبل فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى دامية، فلما أبصرها دامية والتنين مقتولاً ارتاح لذلك. ولما رجع إلى شعيب مس الغنم فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن فأخبره موسى ففرح وعلم أن لموسى والعصا شأناً وقال له: إني وهبت لك من نتاج غنمي هذا العام كل أدرع ودرعاء فأوحي إليه في المنام أن أضرب بعصاك مستقى الغنم ففعل ثم سقى فوضعت كلهن أدرع ودرعاء فوفى له بشرطه.

.تفسير الآيات (29- 30):

{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)}
{فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل} قال عليه السلام: «قضى أوفاهما وتزوج صغراهما» وهذا بخلاف الرواية التي مرت {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} بامرأته نحو مصر. قال ابن عطاء: لما تم أجل المحنة ودنا أيام الزلفة وظهرت أنوار النبوة سار بأهله ليشتركوا معه في لطائف صنع ربه {ءَانَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إِنّى ءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلِي ءَاتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ} عن الطريق لأنه قد ضل الطريق {أَوْ جَذْوَةٍ مّنَ النار لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا أتاها نُودِىَ مِن شَاطِئ الواد الأيمن} بالنسبة إلى موسى {فِى البقعة المباركة} بتكليم الله تعالى فيها {مِنَ الشجرة} العناب أو العوسج {أَن يا موسى} {أن} مفسرة أو مخففة من الثقيلة {إِنّى أَنَا الله رَبُّ العالمين} قال جعفر: أبصر ناراً دلته على الأنوار لأنه رأى النور في هيئة النار، فلما دنا منها شملته أنوار القدس وأحاطت به جلابيب الأنس فخوطب بألطف خطاب واستدعى منه أحسن جواب فصار بذلك مكلماً شريفاً أعطى ما سأل وأمن مما خاف، والجذوة باللغات الثلاث وقريء بهن، فعاصم بفتح الجيم، وحمزة وخلف بضمها، وغيرهم بكسرها. العود الغليظ كانت في رأسه نار أو لم تكن، و{من} الأولى والثانية لابتداء الغاية أي أتاه النداء من شاطيء الوادي من قبل الشجرة. و{من الشجرة} بدل {من شاطئ الواد} بدل الاشتمال لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ أي الجانب.

.تفسير الآيات (31- 32):

{وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)}
{وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} ونودي أن ألق عصاك فألقاها فقلبها الله ثعباناً {فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ} تتحرك {كَأَنَّهَا جَانٌّ} حية في سعيها وهي ثعبان في جثتها {ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ} يرجع فقيل له {ياموسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمنين} أي أمنت من أن ينالك مكروه من الحية {اسلك} أدخل {يَدَكَ في جَيْبِكَ} جيب قميصك {تَخْرُجْ بَيْضَاء} لها شعاع كشعاع الشمس {مِنْ غَيْرِ سُوء} برص.
{واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب} حجازي بفتحتين وبصري. {الرَّهب} حفص {الرُّهب} غيرهم ومعنى الكل الخوف والمعنى: واضمم يدك إلى صدرك يذهب ما بك من فرق أي لأجل الحية. عن ابن عباس رضي الله عنهما: كل خائف إذا وضع يده على صدره زال خوفه. وقيل: معنى ضم الجناح أن الله تعالى لما قلب العصا حية فزع موسى واتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء فقيل له: إن اتقاءك بيدك غضاضة عند الأعداء فإذا ألقيتها فكما تنقلب حية فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران: اجتناب ما هو غضاضة عليك وإظهار معجزة أخرى. والمراد بالجناح اليد لأن يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى فقد ضم جناحه إليه، أو أريد بضم جناحه إليه تجلده وضبطه نفسه عند انقلاب العصا حية حتى لا يضطرب ولا يرهب، استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران. ومعنى {من الرهب} من أجل الرهب أي إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك، جعل الرهب الذي كان يصيبه سبباً وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه. ومعنى {واضمم إليك جناحك} و{اسلك يدك في جيبك} على أحد التفسيرين واحد ولكن خولف بين العبارتين لاختلاف الغرضين إذ الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء، وفي الثاني إخفاء الرهب. ومعنى {واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ} [طه: 22] في (طه) أدخل يمناك تحت يسراك {فَذَانِكَ} مخففاً مثنى (ذاك) ومشدداً: مكي وأبو عمرو مثنى ذلك فإحدى النونين عوض من اللام المحذوفة والمراد اليد والعصا {برهانان} حجتان نيرتان بينتان وسميت الحجة برهاناً لإنارتها من قولهم للمرأة البيضاء برهرهة {مِن رَّبّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإيهِ} أي أرسلناك إلى فرعون وملئه بهاتين الآيتين {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين} كافرين.

.تفسير الآيات (33- 35):

{قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)}
{قَالَ رَبّ إِنّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} به بغير يا ء وبالياء: يعقوب {وَأَخِى هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِىَ} حفص {رِدْءاً} حال أي عونا يقال ردأته أعنته، وبلا همز: مدني {يُصَدّقُنِى} عاصم وحمزة صفة أي ردأ مصدقاً لي، وغيرهما بالجزم جواب ل {أرسله} ومعنى تصديقه موسى إعانته إياه بزيادة البيان في مظان الجدال إن احتاج إليه ليثبت دعواه لا أن يقول له صدقت، ألا ترى إلى قوله {هو أفصح مني لساناً فأرسله} وفضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لتقرير البرهان لا لقوله صدقت فسحبان وباقل فيه يستويان {إِنّى أَخَافُ أَنْ يُكَذّبُونِ}. {يكذبوني} في الحالين: يعقوب {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} سنقويك به إذ اليد تشد بشدة العضد لأنه قوام اليد والجملة تقوى بشدة اليد على مزاولة الأمور {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سلطانا} غلبة وتسلطاً وهيبة في قلوب الأعداء {فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا باياتنا} الباء تعلق ب {يصلون} أي لا يصلون إليكما بسبب آياتنا وتم الكلام، أو ب {نجعل لكما سلطاناً} أي نسلطكما بآياتنا أو بمحذوف أي إذهبا بآياتنا، أو هو بيان ل {الغالبون} لا صلة، أو قسم جوابه {لا يصلون} مقدماً عليه {أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون}

.تفسير الآيات (36- 38):

{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)}
واضحات {قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى} أي سحر تعمله أنت ثم تفتريه على الله، أو سحر موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر وليس بمعجزة من عند الله {وَمَا سَمِعْنَا بهذا في ءابَائِنَا الأولين} حال منصوبة عن هذا أي كائناً في زمانهم يعني ما حدثنا بكونه فيهم {وَقَالَ موسى رَبّى أَعْلَمُ بِمَن جَاء بالهدى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} أي ربي أعلم منكم بحال من أهله الله للفلاح الأعظم حيث جعله نبياً وبعثه بالهدى ووعده حسن العقبى يعني نفسه، ولو كان كما تزعمون ساحراً مفترياً لما أهله لذلك لأنه غني حكيم لا يرسل الكاذبين ولا ينبيء الساحرين ولا يفلح عنده الظالمون. وعاقبة الدار هي العاقبة المحمودة لقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عقبى الدار جنات عَدْنٍ} [الرعد: 22] والمراد بالدار الدنيا وعاقبتها أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان وتلقي الملائكة بالبشرى والغفران. {قال موسى} بغير واو: مكي وهو حسن لأن الموضع موضع سؤال وبحث عما أجابهم موسى عند تسميتهم مثل تلك الآيات العظام سحراً مفترى، ووجه الأخرى أنهم قالوا ذلك وقال موسى هذا ليوازن الناظر بين القول والمقول ويتبصر فساد أحدهما وصحة الآخر. ربي أعلم حجازي وأبو عمرو و{من يكون} حمزة وعلي.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى} قصد بنفي علمه بإله غيره نفي وجوده أي ما لكم من إله غيري أو هو على ظاهره وأن إلهاً غيره غير معلوم عنده {فَأَوْقِدْ لِى ياهامان عَلَى الطين} أي اطبخ لي الآجر واتخذه. وإنما لم يقل مكان الطين هذا لأنه أول من عمل الآجر فهو يعلمه الصنعة بهذه العبارة، ولأنه أفصح وأشبه بكلام الجبابرة إذ أمر هامان وهو وزيره بالإيقاد على الطين منادى باسمه ب (يا) في وسط الكلام دليل التعظيم والتجبر {فاجعل لّى صَرْحاً} قصراً عالياً {لَّعَلّي أَطَّلِعُ} أي أصعد والاطلاع الصعود {إلى إله موسى} حسب أنه تعالى في مكان كما كان هو في مكان {وَإِنّى لأظُنُّهُ} أي موسى {مِنَ الكاذبين} في دعواه أن له إلهاً وأنه أرسله إلينا رسولاً. وقد تناقض المخذول فإنه قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى} ثم أظهر حاجته إلى هامان، وأثبت لموسى إلهاً وأخبر أنه غير متيقن بكذبه وكأنه تحصن من عصا موسى عليه السلام فلبّس وقال: {لعلى أطلع إلى إله موسى} روي أن هامان جمع خمسين ألف بناء وبنى صرحاً لم يبلغه بناء أحد من الخلق، فضرب الصرح جبريل عليه السلام بجناحه فقطعه ثلاث قطع، وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل، وقطعة في البحر، وقطعة في المغرب ولم يبق أحد من عماله إلا هلك.